فصل: نوع الفرقة الثّابتة بالعيب وطريق وقوعها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


الاستثناء في الطّلاق

تعريفه وحكمه‏:‏

55 - الاستثناء في اللّغة‏:‏ هو الإخراج بإلاّ أو بإحدى أخواتها، بعضاً ممّا يوجبه عموم سابق، تحقيقاً أو تقديراً، والأوّل هو المتّصل، والثّاني هو المنقطع، والأوّل هو المراد هنا دون الثّاني لدى الفقهاء، ويضاف إلى الأوّل الاستثناء الشّرعيّ، وهو التّعليق على مشيئة اللّه تعالى، أخذاً من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلا يَسْتَثْنُونَ‏}‏‏.‏ والاستثناء الشّرعيّ - وهو التّعليق على مشيئة اللّه تعالى - مبطل للطّلاق، - أي لا يقع به الطّلاق - لدى الحنفيّة والشّافعيّة إذا استوفى شروطه للشّكّ فيما يشاؤه سبحانه، وخالف الحنابلة والمالكيّة، وقالوا‏:‏ لا يبطل الطّلاق به - أي يقع به الطّلاق -‏.‏

أمّا الاستثناء اللّغويّ بإلاّ وأخواتها فمؤثّر وملغ للطّلاق بحسبه إذا استوفى شروطه، وعلى ذلك لو قال لزوجته‏:‏ أنت طالق ثلاثاً إلاّ واحدةً، طلقت اثنتين فقط، ولو قال‏:‏ أنت طالق ثلاثاً إلاّ اثنتين طلقت واحدةً فقط، فإن قال‏:‏ أنت طالق ثلاثاً إلاّ ثلاثاً، وقع الثّلاث، لأنّه إلغاء، وليس استثناء، والإلغاء باطل هنا‏.‏

شروطه‏:‏

يشترط لصحّة الاستثناء من الطّلاق، سواء أكان استثناءً لغويّاً أم تعليقاً على مشيئة اللّه تعالى، شروط هي‏:‏

56 - أ - اتّصاله بالكلام السّابق عليه، أي اتّصال المستثنى بالمستثنى منه، بحيث يعدّان كلاماً واحداً عرفاً، فإن فصل بينهما بكلام أو سكوت لغا الاستثناء، وثبت حكم الطّلاق، فإذا قال لها‏:‏ أنت طالق، ثمّ قال‏:‏ إن شاء اللّه تعالى منفصلاً، طلقت، أو قال‏:‏ أنت طالق اثنتين، ثمّ سكت، ثمّ قال‏:‏ إلاّ واحدةً وقع اثنتان، ولغا الاستثناء، وكذلك إذا قال لها‏:‏ أنت طالق ثلاثاً، ثمّ سألها عن أمر، ثمّ قال‏:‏ إلاّ اثنتين، فإنّها تطلق ثلاثاً، لإلغاء الاستثناء بالكلام الفاصل‏.‏

إلاّ أنّه يعفى هنا عن الفاصل القصير الضّروريّ، كالسّكوت للتّنفّس أو إساغة اللّقمة، كما يعفى عن الكلام المفيد المتعلّق بالمستثنى منه، كأن يقول لها‏:‏ أنت طالق ثلاثاً يا زانية إلاّ اثنتين، فإنّها تطلق بواحدة، لأنّ لفظة زانية بيان لسبب الطّلاق، وكذلك قوله لها‏:‏ أنت طالق ثلاثاً بائناً إلاّ اثنتين عند الحنفيّة، فإنّه يقع به واحدة بائنة عندهم، بخلاف‏:‏ أنت طالق ثنتين رجعيّتين إلاّ واحدةً، فإنّه يقع به اثنتان رجعيّتان، ويلغو الاستثناء لعدم إفادة هذا الفاصل‏.‏

57 - ب - نيّة الحالف الاستثناء قبل الفراغ من التّلفّظ في الطّلاق عند المالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ، فإن نواه بعده لم يصحّ ويقع الطّلاق بدونه، وفي قول ثان للشّافعيّة إن نواه بعده جاز، وقال الحنفيّة‏:‏ يصحّ بغير نيّة مطلقاً، ولم أر من نصّ على ذلك من الحنابلة، ولعلّهم مع الحنفيّة في ذلك‏.‏

58 - ج - أن يكون الاستثناء بصوت مسموع لنفسه على الأقلّ، فلو كان دون ذلك لم يصحّ الاستثناء، لأنّه مجرّد نيّة، وهي غير كافية لصحّته بالاتّفاق‏.‏

59 - د - عدم استغراق المستثنى للمستثنى منه، فإذا قال‏:‏ أنت طالق ثلاثاً إلاّ ثلاثاً لم يصحّ، لأنّه رجوع وإلغاء، وليس استثناءً‏.‏

وهل يجوز استثناء الأكثر ‏؟‏ نصّ الجمهور على صحّته، ونصّ الحنابلة على عدم صحّته‏.‏ إلاّ أنّه إن قال‏:‏ طالق ثلاثاً إن شاء اللّه تعالى قاصداً الاستثناء متّصلاً لغا طلاقه عند الجمهور، خلافاً للحنابلة لما تقدّم‏.‏

وهل يجب تقديم المستثنى منه على المستثنى ‏؟‏ نصّ الشّافعيّة والحنفيّة على عدم شرطيّة ذلك، وسوّوا بين أن يقدّم المستثنى أو المستثنى منه، فلو قال‏:‏ أنت طالق ثلاثاً إلاّ واحدةً وقع ثنتان، وإذا قال‏:‏ أنت إلاّ واحدةً طالق ثلاثاً وقع ثنتان أيضاً، وإذا قال‏:‏ أنت طالق إن شاء اللّه تعالى، صحّ الاستثناء أو قال‏:‏ إن شاء اللّه تعالى فأنت طالق فكذلك ما دام أدخل الفاء على ‏"‏ أنت ‏"‏ فإن لم يدخلها فقولان، المفتى به منهما‏:‏ عدم الوقوع‏.‏

وهل يجب التّلفّظ بالمستثنى والمستثنى منه ‏؟‏ نصّ الحنفيّة على عدم اشتراط ذلك، وعلى هذا إذا قال لزوجته‏:‏ أنت طالق ثلاثاً، ثمّ كتب متّصلاً‏:‏ إلاّ واحدةً، وقع اثنتان، ولو كتب‏:‏ أنت طالق ثلاثاً، ثمّ قال متّصلاً‏:‏ إلاّ واحدةً وقع اثنتان أيضاً‏.‏ فإن كتبهما معاً، ثمّ أزال الاستثناء وقع اثنتان فقط، ولا قيمة لإزالة الاستثناء بعد كتابته، لأنّه رجوع عنه، والرّجوع هنا غير صحيح‏.‏

60 – هـ – أن لا يكون المستثنى جزء طلقة، فإن استثنى جزء طلقة لم يصحّ الاستثناء، وعلى ذلك إذا قال لزوجته‏:‏ أنت طالق ثلاثاً إلاّ نصف طلقة طلقت ثلاثاً، ولو قال لها‏:‏ أنت طالق اثنتين إلاّ ثلثي طلقة، طلقت اثنتين أيضاً لدى الجمهور، وهو الصّحيح لدى الشّافعيّة، والثّاني‏:‏ يصحّ الاستثناء، ويستثنى بجزء الطّلقة طلقة كاملة‏.‏

61 - وهل يكون الاستثناء من المستثنى منه الملفوظ دون المملوك ‏؟‏ ذكر الحنفيّة ذلك، وذكر الشّافعيّة قولين، الأصحّ منهما‏:‏ أنّ الاستثناء من الملفوظ كالحنفيّة‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّه يعتبر من المملوك، وعلى ذلك فلو قال لزوجته‏:‏ أنت طالق خمساً إلاّ ثلاثاً طلقت اثنتين عند الحنفيّة والأصحّ من قولي الشّافعيّة، وفي قول الشّافعيّة الثّاني طلقت ثلاثاً، لأنّه يملك عليها ثلاثاً، فلمّا استثنى منه ثلاثاً كان رجوعاً فلغا‏.‏ وكذلك إذا قال لها‏:‏ أنت طالق عشراً إلاّ تسعاً، فإنّها تطلق بواحدة على القول الأوّل، وبثلاث على القول الثّاني‏.‏ وللمالكيّة في ذلك قولان‏:‏ الرّاجح منهما اعتبار الملفوظ فيستثنى منه، ومقابل الرّاجح اعتبار المملوك، فلو قال لها‏:‏ أنت طالق خمساً إلاّ اثنتين، فعلى الرّاجح يلزمه ثلاث، وعلى المرجوح يلزمه واحدة‏.‏

الإنابة في الطّلاق

62 - الطّلاق تصرّف شرعيّ قوليّ، وهو حقّ الرّجل كما تقدّم، فيملكه ويملك الإنابة فيه كسائر التّصرّفات القوليّة الأخرى الّتي يملكها، كالبيع والإجارة‏.‏‏.‏‏.‏ فإذا قال رجل لآخر‏:‏ وكّلتك بطلاق زوجتي فلانة، فطلّقها عنه، جاز، ولو قال لزوجته نفسها‏:‏ وكّلتك بطلاق نفسك، فطلّقت نفسها، جاز أيضاً، ولا تكون في هذا أقلّ من الأجنبيّ‏.‏

وبيان المذاهب فيما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ مذهب الحنفيّة‏:‏

63 - إذن الزّوج لغيره في تطليق زوجته ثلاثة أنواع‏:‏ تفويض وتوكيل ورسالة‏.‏

وقد ذكر الحنفيّة للتّفويض ثلاثة ألفاظ، وهي‏:‏ تخيير، وأمر بيد، ومشيئة‏.‏

فلو قال لها‏:‏ طلّقي نفسك، واختاري نفسك، وأمرك بيدك، فالأولى يقع الطّلاق بها صريحاً بدون نيّة، واللّفظان الآخران من ألفاظ الكناية، فلا يقع بهما الطّلاق بغير نيّة‏.‏

كما يكون التّفويض عندهم بإنابة الزّوج أجنبيّاً عنه بطلاق زوجته إذا علّقه على مشيئته، بأن قال له‏:‏ طلّق زوجتي إن شئت، فإن لم يقل له‏:‏ إن شئت، كان توكيلاً لا تفويضاً‏.‏ هذا، وبين التّفويض والتّوكيل عند الحنفيّة فروق في الأحكام من حيثيّات متعدّدة، أهمّها‏:‏

أ - من حيث الرّجوع فيه، فليس للزّوج الرّجوع في التّفويض، لأنّه تعليق على مشيئة، والتّعليق يمين لا رجوع فيها، فإذا قال له‏:‏ طلّق زوجتي إن شئت، أو قال لزوجته‏:‏ اختاري نفسك ناوياً طلاقها، لم يكن له أن يعزلها، أمّا الوكيل فله عزله مطلقاً ما دام لم يطلّق‏.‏

ب - من حيث الحدّ بالمجلس‏:‏ فللوكيل أن يطلّق عن موكّله في المجلس وغيره، ما لم يحدّه الموكّل بالمجلس أو زمان ومكان معيّنين، فإن حدّه بذلك تحدّد به، أمّا التّفويض فمحدود بالمجلس فإذا انقضى المجلس لغا التّفويض، ما لم يبيّن له مدّةً، أو يعلّقه على مشيئته، فإن بيّن مدّةً تحدّد بالمدّة المبيّنة، كأن قال لها‏:‏ طلّقي نفسك خلال شهر، أو يوم، أو ساعة، أو طلّقي نفسك متى شئت، فإن قال ذلك تحدّد بما ذكر، لا بالمجلس‏.‏

ج - من حيث نوع الطّلاق الواقع به، فقد ذهب الحنفيّة إلى أنّ التّفويض إذا كان بلفظ صريح كقوله لها‏:‏ طلّقي نفسك فطلّقت، وقع به الطّلاق رجعيّاً، وإن قال لها‏:‏ اختاري نفسك، فقالت‏:‏ اخترت نفسي، وقع به بائناً، هذا إذا نويا الطّلاق، وإلاّ لم يقع به شيء لأنّه كناية‏.‏

د - من حيث تأثّره بجنون الزّوج، فإذا فوّض الزّوج زوجته أو غيرها بالطّلاق، ثمّ جنّ، فالتّفويض على حاله، وإن وكّله بالطّلاق فجنّ بطل التّوكيل، لأنّ التّفويض تمليك، وهو لا يبطل بالجنون، على خلاف التّوكيل، فهو إنابة محضة، وهي تبطل بالجنون‏.‏

هـ – من حيث اشتراط أهليّة النّائب، فإنّ التّفويض يصحّ لعاقل ومجنون وصغير، على خلاف التّوكيل، فإنّه يشترط له أهليّة الوكيل، وعلى هذا فلو فوّض زوجته الصّغيرة بطلاق نفسها فطلّقت، وقع الطّلاق، ولو وكّل أخاه الصّغير بطلاقها، فطلّقها لم يصحّ، فلو فوّضها بالطّلاق، وهي عاقلة، ثمّ جنّت فطلّقت نفسها، لم يصحّ عند الحنفيّة استحساناً‏.‏

ثانياً‏:‏ مذهب المالكيّة‏:‏

64 - النّيابة في الطّلاق عند المالكيّة أربعة أنواع‏:‏ توكيل وتخيير وتمليك ورسالة‏.‏ فالتّوكيل عندهم هو‏:‏ جعل الزّوج الطّلاق لغيره - زوجةً أو غيرها - مع بقاء الحقّ للزّوج في منع الوكيل - بعزله - من إيقاع الطّلاق، كقوله لها‏:‏ أمرك بيدك توكيلاً‏.‏

والتّخيير عندهم هو‏:‏ جعل الطّلاق الثّلاث حقّاً للغير وملكاً له نصّاً كقوله لها‏:‏ اختاريني أو اختاري نفسك‏.‏

والتّمليك هو‏:‏ جعل الطّلاق حقّاً للغير وملكاً له راجحاً في الثّلاث، كقوله لها‏:‏ أمرك بيدك، وبين هذه الثّلاثة اتّفاق واختلاف على ما يلي‏:‏

أ - فمن حيث جواز الرّجوع فيه، في التّوكيل للزّوج حقّ عزل وكيله بالطّلاق مطلقاً، سواء أكان الوكيل هو الزّوجة أم غيرها، إلاّ أن يتعلّق به حقّ للزّوجة زائد عن التّوكيل، كقوله لزوجته‏:‏ إن تزوّجت عليك فأمرك بيدك، أو أمر الدّاخلة عليك بيدك، فإنّه لا يملك عزلها في هذه الحال، لتعلّق حقّها به، وهو دفع الضّرر عنها، ولولا ذلك لأمكنه عزلها‏.‏ فإن فوّضه بالطّلاق تخييراً أو تمليكاً لم يكن له عزل المفوّض حتّى يطلّق أو يردّ التّفويض‏.‏

ب - ومن حيث تحديده بمدّة، فإن حدّد الزّوج النّيابة بأنواعها بالمجلس تحدّد مطلقاً، وإن حدّدها بزمان معيّن بعد المجلس لم تقتصر على المجلس، ولكن إن مارس النّائب حقّه في الطّلاق خلال الزّمن المحدّد طلقت، وإلاّ فهو على حقّه ما دام الزّمان باقياً، إلاّ أن يعلم القاضي بذلك، فإن علم به، فإنّه يحضره ويأمره بالاختيار، فإن اختار الطّلاق طلقت، وإلاّ أسقط القاضي حقّه في ذلك، ولا يمهله ولو رضي الزّوج بالإمهال، وذلك حمايةً لحقّ اللّه تعالى، فإن أطلق ولم يحدّده بالمجلس ولا بزمن آخر، فللمالكيّة روايتان‏:‏

الأولى‏:‏ يتحدّد بالمجلس كالحنفيّة، والثّانية‏:‏ لا يتحدّد به‏.‏

ج - من حيث عدد الطّلقات، إن كان التّفويض تخيّراً مطلقاً - وقد دخل بزوجته - فللمفوّضة إيقاع ما شاءت من الطّلاق، واحدةً واثنتين وثلاثاً، وإن كان لم يدخل بها، أو كان التّفويض تمليكاً، فله منعها من أكثر من واحدة، بشروط ستّة، إن توفّرت لم يقع بقولها أكثر من واحدة، وإن اختلّت وقع ما ذكرت‏.‏

وهذه الشّروط هي‏:‏

أ - أن ينوي ما هو أقلّ من الثّلاث، فإن نوى واحدةً لم تملك بذلك أكثر منها، فإذا نوى اثنين ملكتهما ولم تملك الثّلاث‏.‏

ب - أن يبادر للإنكار عليها فور إيقاعها الثّلاث، وإلاّ سقط حقّه ووقع ثلاث‏.‏

ج - أن يحلف أنّه لم ينو بذلك أكثر من العدد الّذي يدّعيه، واحدةً أو اثنتين، فإن نكل قضي عليه بما أوقعت، ولا تردّ اليمين عليها‏.‏

د - عدم الدّخول بالزّوجة إن كان التّفويض تخيّراً، وإلاّ وقع الثّلاث عليه إن أوقعها مطلقاً‏.‏

هـ- أن لا يكرّر التّفويض، فإن كرّره بأن قال لها‏:‏ أمرك بيدك، أمرك بيدك، أمرك بيدك، لم يقبل اعتراضه على طلاقها الثّلاث، إلاّ أن ينوي بالتّكرار التّأكيد، فيقبل اعتراضه‏.‏

و- أن لا يكون التّفويض مشروطاً عليه في العقد، فإن شرط في العقد ملكت الثّلاث مطلقاً‏.‏ فإن خيّرها ودخل بها فطلّقت نفسها واحدةً فقط، لم تقع وسقط تخييرها، لأنّها خرجت بذلك عمّا فوّضها، وقد انقضى حقّها بإظهار مخالفتها، فسقط خيارها في قول، وفي قول آخر لم يسقط بذلك خيارها‏.‏

ثالثاً‏:‏ مذهب الشّافعيّة والحنابلة‏:‏

65 - أجاز الشّافعيّة والحنابلة للزّوج إنابة زوجته بالطّلاق، كما أجازوا له إنابة غيرها به أيضاً، فإن أناب الغير كان توكيلاً، فيجري عليه من الشّروط والأحكام ما يجري على التّوكيل من جواز التّقييد والرّجوع فيه‏.‏

وللزّوج تفويض طلاقها إليها، وهو تمليك في الجديد عند الشّافعيّة فيشترط لوقوعه تطليقها على الفور، وفي قول توكيل، فلا يشترط فور في الأصحّ، وعلى القول بالتّمليك في اشتراط قبولها لفظاً الخلاف في الوكيل، والمرجّح عدم اشتراط القبول لفظاً‏.‏

وعلى القولين - التّمليك والتّوكيل - له الرّجوع عن التّفويض‏.‏

ولو قال لزوجته‏:‏ طلّقي ونوى ثلاثاً، فقالت‏:‏ طلّقت ونوتهنّ، وقد علمت نيّته، أو وقع ذلك اتّفاقاً فثلاث، لأنّ اللّفظ يحتمل العدد، وقد نوياه‏.‏

وإذا نوى ثلاثاً ولم تنو هي عدداً، أو لم ينويا، أو نوى أحدهما وقعت واحدةً في الأصحّ‏.‏ وعند الحنابلة‏:‏ من قال لامرأته‏:‏ أمرك بيدك فهو توكيل منه لها بالطّلاق ولا يتقيّد ذلك بالمجلس، بل هو على التّراخي لقول عليّ رضي الله عنه، ولم يعرف له مخالف في الصّحابة، فكان كالإجماع‏.‏

وفي الأمر باليد لها أن تطلّق نفسها ثلاثاً، أفتى به أحمد مراراً، كقوله‏:‏ طلّقي نفسك ما شئت، ولا يقبل قوله‏:‏ أردت واحدةً‏.‏

وإن قال لها‏:‏ اختاري نفسك لم يكن لها أن تطلّق أكثر من واحدة، وتقع رجعيّة، لأنّ ‏"‏ اختاري ‏"‏ تفويض معيّن، فيتناول أقلّ ما يقع عليه الاسم، وهو طلقة رجعيّة، إلاّ أن يجعل إليها أكثر من واحدة، كأن يقول‏:‏ اختاري ما شئت، أو اختاري الطّلقات إن شئت، فإن نوى بقوله اختاري عدداً، فهو على ما نوى، لأنّه كناية‏.‏ بخلاف‏:‏ أمرك بيدك، فيتناول جميع أمرها‏.‏

وليس للمقول لها‏:‏ اختاري أن تطلّق إلاّ ما داما في المجلس، ولم يتشاغلا بما يقطعه عرفاً، إلاّ أن يقول لها‏:‏ اختاري نفسك يوماً أو أسبوعاً أو شهراً، فتملكه إلى انقضاء ذلك‏.‏

طلاق الفارّ

66 - طلاق الفارّ هو‏:‏ طلاق الزّوج زوجته بائناً في حال مرض موته، وقد يعنون الفقهاء له‏:‏ بطلاق المريض‏.‏

وقد ذهب الفقهاء إلى صحّة طلاق الزّوج زوجته إذا كان مريضاً مرض موت، كصحّته من الزّوج غير المريض ما دام كامل الأهليّة‏.‏

كما ذهبوا إلى إرثها منه إذا مات وهي في عدّتها من طلاق رجعيّ، سواء أكان بطلبها أم لا، وأنّها تستأنف لذلك عدّة الوفاة‏.‏

فإذا كان الطّلاق بائناً ومات وهي في العدّة، فإن كان الزّوج صحيحاً عند الطّلاق غير مريض مرض الموت لم ترث منه بالاتّفاق، وتبني على عدّة الطّلاق، وإن كان مريضاً مرض موت عند الطّلاق فكذلك عند الشّافعيّة في الجديد‏.‏

وذهب الحنفيّة، والحنابلة في الأصحّ، وهو المذهب القديم للشّافعيّة، إلى أنّها ترث منه معاملةً له بنقيض قصده، وتعتدّ بأبعد الأجلين، ويعدّ فارّاً بهذا الطّلاق من إرثها، واسمه طلاق الفرار‏.‏

واشترطوا له أن يكون بغير طلبها ولا رضاها بالبينونة، وأن تكون أهلاً للميراث من وقت الطّلاق إلى وقت الوفاة، فإن كان الطّلاق برضاها كالمخالعة لم ترث‏.‏

وكذلك عند الحنفيّة إذا كانت البينونة بسبب تقبيلها ابن زوجها أو غيره، فإنّها لا ترث أيضاً، لأنّ سبب الفرقة ليس من الزّوج، فلا يعدّ بذلك فارّاً من إرثها، فإن طلبت منه الطّلاق مطلقاً، أو طلبت طلاقاً رجعيّاً فطلّقها بائناً واحدةً أو أكثر ثمّ مات وهي في عدّتها ورثت منه، لأنّها لم تطلب البينونة ولم ترض بها‏.‏

فإذا مات بعد انقضاء عدّتها لم ترث منه، ولم تتغيّر عدّتها لدى الجمهور، ولا يعدّ فارّاً بطلاقها، وفي قول ثان للحنابلة أنّها ترث منه ما لم تتزوّج من غيره، وهو خلاف الأصحّ عندهم‏.‏

والمالكيّة على توريثها منه مطلقاً، أي سواء كان بطلبها كالمخيّرة والمملّكة والمخالعة، أو بغير طلبها، حتّى لو مات بعد عدّتها وزواجها من غيره‏.‏

مسألة الهدم

67 - هذه المسألة تميّزت بلقب خاصّ بها لدى الفقهاء، نظراً لاختلافهم فيها وأهمّيّتها، ويتبيّن ذلك ممّا يلي‏:‏

اتّفق الفقهاء على أنّ الزّوج إذا طلّق زوجته ثلاثاً، ثمّ تزوّجت من غيره بعد عدّتها ودخل بها، ثمّ عادت إليه بعد بينونتها من ذلك الغير وانقضاء عدّتها منه‏:‏ أنّه يملك عليها ثلاث تطليقات‏.‏

كما اتّفقوا على أنّه إذا طلّقها بما دون الثّلاث، ثمّ تزوّجها - دون الزّواج من آخر - أنّه يملك عليها ما بقي له إلى الثّلاث فقط‏.‏

فإذا طلّقها بما دون الثّلاث، فتزوّجت من غيره بعد عدّتها ودخل بها، ثمّ عادت إليه بعد بينونتها من ذلك الغير وانقضاء عدّتها منه‏:‏

فذهب الجمهور وفيهم محمّد بن الحسن من الحنفيّة إلى أنّه يملك عليها ما بقي له إلى الثّلاث، فإن كان أبانها بواحدة ملك عليها اثنتين أخريين، وإن كان أبانها باثنتين ملك عليها ثالثةً فقط، وهو مذهب عدد من الصّحابة فيهم عمر، وعليّ، وعمران بن حصين، وأبو هريرة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم‏.‏

وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنّه يملك عليها ثلاثاً، وقد انهدم ما أبانها به سابقاً، ومن هنا سمّيت هذه المسألة بمسألة الهدم، وقول الشّيخين هذا هو مذهب عدد من الصّحابة، فيهم ابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم وهو قول للحنابلة، والقول الثّاني - وهو الأرجح عندهم - مع الجمهور‏.‏

وقد اختلف التّرجيح في المذهب الحنفيّ، فمنهم بل أكثرهم قالوا بترجيح قول محمّد، كالكمال بن الهمام، بل إنّه قال عنه‏:‏ إنّه الحقّ، وتبعه في ذلك صاحب النّهر والبحر والشّرنبلاليّ غيرهم، ومنهم من رجّح قول الشّيخين كالعلامة قاسم، وعليه مشت المتون‏.‏

حكم جزء الطّلقة

68 - إذا قال الزّوج لزوجته‏:‏ أنت طالق نصف طلقة، أو ربع طلقة، أو ثلث طلقة أو أقلّ من ذلك أو أكثر، وقع عليه طلقة واحدة‏.‏ لأنّ الطّلقة تحريم، وهو لا يتجزّأ‏.‏

وفي المسألة تفصيل يحسن معه ذكر كلّ مذهب على حدة‏:‏

قال الحنفيّة‏:‏ وجزء الطّلقة ولو من ألف جزء تطليقة لعدم التّجزّؤ‏.‏

فلو زادت الأجزاء وقع أخرى، وهكذا ما لم يقل‏:‏ نصف طلقة وثلث طلقة وسدس طلقة فيقع الثّلاث، لأنّ المنكّر إذا أعيد منكّراً كان الثّاني غير الأوّل، فيتكامل كلّ جزء، بخلاف ما إذا قال‏:‏ نصف تطليقة وثلثها وسدسها، حيث تقع واحدةً، لأنّ الثّاني والثّالث عين الأوّل‏.‏ فإن جاوز مجموع الأجزاء تطليقةً - بأن قال‏:‏ نصف تطليقة وثلثها وربعها - قيل‏:‏ تقع واحدة، وقيل ثنتان، وهو المختار، وصحّحه في الظّهيريّة‏.‏

ولو بلا واو بأن قال‏:‏ نصف طلقة، ثلث طلقة، سدس طلقة، فواحدة، لدلالة حذف العاطف على أنّ هذه الأجزاء من طلقة واحدة، وأنّ الثّاني بدل من الأوّل، والثّالث بدل من الثّاني‏.‏

وقال الحنفيّة أيضاً، ويقع بثلاثة أنصاف طلقتين ثلاثة، لأنّ نصف التّطليقتين واحدة فثلاثة أنصاف تطليقتين ثلاث تطليقات، وقيل ثنتان، لأنّ التّطليقتين إذا نصّفتا كانت أربعة أنصاف فثلاثة منها طلقة ونصف، فتكمل تطليقتين‏.‏

ويقع بثلاثة أنصاف طلقة أو نصفي طلقتين طلقتان في الأصحّ وكذا في نصف ثلاث تطليقات لأنّها طلقة ونصف فيتكامل النّصف‏.‏ وفي نصفي طلقتين يتكامل كلّ نصف فيحصل طلقتان‏.‏ 69 - وقال المالكيّة‏:‏ لو قال الزّوج لزوجته‏:‏ أنت طالق نصف تطليقة أو نصف طلقتين لزمه طلقة واحدة، ولو قال لها‏:‏ أنت طالق نصف وثلث طلقة لزمته واحدة لعدم إضافة الجزء للفظ طلقة، ولو قال لها‏:‏ أنت طالق نصف وثلث وربع طلقة لزمه اثنتان لزيادة الأجزاء على واحدة‏.‏

ولو أضاف الجزء للفظ طلقة، فقال لها‏:‏ أنت طالق ثلث طلقة وربع طلقة بحرف العطف لزمه اثنتان‏.‏

وإن قال لها‏:‏ أنت طالق ثلث طلقة وربع طلقة ونصف طلقة لزمه ثلاث طلقات، لأنّ كلّ كسر أضيف لطلقة أخذ مميّزه، فاستقلّ بنفسه، أي‏:‏ حكم بكمال الطّلقة فيه، فالجزء الآخر المعطوف يعدّ طلقةً‏.‏

70 - وقال الشّافعيّة‏:‏ لو قال الزّوج لزوجته‏:‏ أنت طالق بعض طلقة وقعت طلقة، لأنّ الطّلاق لا يتبعّض، فإيقاع بعضه كإيقاع كلّه، ولو قال لها‏:‏ أنت طالق نصفي طلقة وقعت طلقة، لأنّ نصفي الطّلقة طلقة، إلاّ أن يريد أنّ كلّ نصف من طلقة، فتقع طلقتان عملاً بقصده، والأصحّ عندهم‏:‏ أنّ قول الزّوج لزوجته‏:‏ أنت طالق نصف طلقتين يقع به طلقة، لأنّ ذلك نصفهما، ما لم يرد كلّ نصف من طلقة فتقع طلقتان‏.‏

وفي أجزاء الطّلقة قال الشّربينيّ الخطيب‏:‏ حاصل ما ذكر أنّه إن كرّر لفظ ‏"‏ طلقة ‏"‏ مع العاطف، ولم تزد الأجزاء على طلقة، كأنت طالق نصف طلقة وثلث طلقة، كان كلّ جزء طلقةً، وإن أسقط لفظ طلقة كأنت طالق ربع وسدس طلقة، أو أسقط العاطف كأنت طالق ثلث طلقة، ربع طلقة، كان الكلّ طلقةً، فإن زادت الأجزاء كنصف وثلث وربع طلقة كمل الزّائد من طلقة أخرى ووقع به طلقة، ولو قال‏:‏ نصف طلقة ونصفها ونصفها فثلاث، إلاّ إن أراد بالنّصف الثّالث تأكيد الثّاني فطلقتان‏.‏

71 - وقال الحنابلة‏:‏ إن قال الزّوج لزوجته‏:‏ أنت طالق نصفي طلقة وقعت طلقة، لأنّ نصفي الشّيء كلّه، وإن قال‏:‏ ثلاثة أنصاف طلقة طلقت طلقتين، لأنّ ثلاثة أنصاف طلقة ونصف، فكمل النّصف، فصارا طلقتين‏.‏

وإن قال‏:‏ أنت طالق نصف طلقتين طلقت واحدةً، لأنّ نصف الطّلقتين طلقة، وإن قال‏:‏ أنت طالق نصفي طلقتين وقعت طلقتان، لأنّ نصفي الشّيء جميعه، فهو كما لو قال‏:‏ أنت طالق طلقتين، وإن قال‏:‏ أنت طالق نصف ثلاث طلقات طلقت طلقتين، لأنّ نصفها طلقة ونصف، ثمّ يكمل النّصف فتصير طلقتين‏.‏

وإن قال‏:‏ أنت طالق نصف وثلث وسدس طلقة وقعت طلقة لأنّها أجزاء الطّلقة، ولو قال‏:‏ أنت طالق نصف طلقة وثلث طلقة وسدس طلقة فقال أصحابنا‏:‏ يقع ثلاث، لأنّه عطف جزءاً من طلقة على جزء من طلقة، فظاهره أنّها طلقات متغايرة، ولأنّها لو كانت الثّانية هي الأولى لجاء بها فاللام التّعريف فقال‏:‏ ثلث الطّلقة وسدس الطّلقة، فإنّ أهل العربيّة قالوا‏:‏ إذا ذكر لفظ ثمّ أعيد منكّراً فالثّاني غير الأوّل، وإن أعيد معرّفاً بالألف واللام فالثّاني هو الأوّل‏.‏

وإن قال‏:‏ أنت طالق نصف طلقة ثلث طلقة سدس طلقة طلقت طلقةً، لأنّه لم يعطف بواو العطف، فيدلّ على أنّ هذه الأجزاء من طلقة غير متغايرة، ولأنّه يكون الثّاني هاهنا بدلاً من الأوّل، والثّالث من الثّاني، والبدل هو المبدل أو بعضه، فلم يقتض المغايرة وعلى هذا التّعليل لو قال‏:‏ أنت طالق طلقةً نصف طلقة، أو طلقةً طلقةً لم تطلق إلاّ طلقةً، فإن قال‏:‏ أنت طالق نصفاً وثلثاً وسدساً لم يقع إلاّ طلقة، لأنّ هذه أجزاء الطّلقة، إلاّ أن يريد من كلّ طلقة جزءاً فتطلق ثلاثاً‏.‏

ولو قال‏:‏ أنت طالق نصفاً وثلثاً وربعاً طلقت طلقتين، لأنّه يزيد على الطّلقة نصف سدس ثمّ يكمل، وإن أراد من كلّ طلقة جزءاً طلقت ثلاثاً‏.‏

الرّجعة في الطّلاق

72 - اتّفق الفقهاء على أنّ الزّوج إذا طلّق زوجته بائناً لا يعود إليها إلاّ بعقد جديد، في العدّة أم بعدها، ما دامت البينونة صغرى وكذلك الحكم بعد فسخ الزّواج‏.‏

فإذا كانت البينونة كبرى، فلا يعود إليها إلاّ بعقد جديد أيضاً، ولكن بعد أن تتزوّج من غيره، ويدخل بها، ثمّ يفارقها وتنقضي عدّتها، وذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏‏.‏

كما اتّفقوا على أنّ الزّوج إذا طلّق زوجته رجعيّاً واحدةً أو اثنتين، فإنّ له العود إليها بالمراجعة بدون عقد ما دامت في العدّة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً‏}‏‏.‏

وقد اتّفق الفقهاء في بعض أحكام الرّجعة، واختلفوا في بعضها الآخر‏.‏

وللتّفصيل انظر مصطلح‏:‏ ‏(‏رجعة ج 22‏)‏‏.‏

التّفريق للشّقاق

73 - الشّقاق هنا‏:‏ هو النّزاع بين الزّوجين، سواء أكان بسبب من أحد الزّوجين، أو بسببهما معاً، أو بسبب أمر خارج عنهما، فإذا وقع الشّقاق بين الزّوجين، وتعذّر عليهما الإصلاح، فقد شرع بعث حكمين من أهلهما للعمل على الإصلاح بينهما وإزالة أسباب النّزاع والشّقاق، بالوعظ وما إليه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا‏}‏‏.‏

ومهمّة الحكمين هنا الإصلاح بين الزّوجين بحكمة ورويّة‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في مهمّة الحكمين، وفي شروطهما، وذلك على الوجه التّالي‏:‏

أ - مهمّة الحكمين‏:‏

74 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ مهمّة الحكمين الإصلاح لا غير، فإذا نجحا فيه فبها، وإلاّ تركا الزّوجين على حالهما ليتغلّبا على نزاعهما بنفسيهما، إمّا بالمصالحة، أو بالصّبر، أو بالطّلاق، أو بالمخالعة، وليس للحكمين التّفريق بين الزّوجين إلاّ أن يفوّض الزّوجان إليهما ذلك، فإن فوّضاهما بالتّفريق بعد العجز عن التّوفيق، كانا وكيلين عنهما في ذلك، وجاز لهما التّفريق بينهما بهذه الوكالة‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ واجب الحكمين الإصلاح أوّلاً، فإن عجزا عنه لتحكّم الشّقاق كان لهما التّفريق بين الزّوجين دون توكيل، ووجب على القاضي إمضاء حكمهما بهذا التّفريق إذا اتّفقا عليه وإن لم يصادف ذلك اجتهاده‏.‏

وإن طلّقا، واختلف الحكمان في المال، بأن قال أحدهما‏:‏ الطّلاق بعوض، وقال الآخر‏:‏ بلا عوض، فإن لم تلتزمه المرأة فلا طلاق يلزم الزّوج، ويعود الحال كما كان، وإن التزمته وقع وبانت منه، وإن اختلفا في قدره بأن قال أحدهما‏:‏ طلّقنا بعشرة، وقال الآخر‏:‏ بثمانية، فيوجب ذلك الاختلاف للزّوج خلع المثل وكذلك لو اختلفا في صفته، أو جنسه‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إن اشتدّ الشّقاق بين الزّوجين بعث القاضي حكماً من أهله وحكماً من أهلها، وهما وكيلان لهما في الأظهر، وفي قول‏:‏ هما حاكمان مولّيان من الحاكم، فعلى الأوّل‏:‏ يشترط رضاهما ببعث الحكمين، فيوكّل الزّوج حكمه بطلاق وقبول عوض خلع، وتوكّل الزّوجة حكمها ببذل عوض وقبول طلاق، ويفرّق الحكمان بينهما إن رأياه صواباً، وإن اختلف رأيهما بعث القاضي اثنين غيرهما، حتّى يجتمعا على شيء، وعلى القول الثّاني‏:‏ لا يشترط رضا الزّوجين ببعثهما ويحكّمان، بما يريانه مصلحةً من الجمع أو التّفريق‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ مهمّة الحكمين الأولى التّوفيق، فإن عجزا عنه لم يكن لهما التّفريق في قول كالحنفيّة، وفي قول آخر‏:‏ لهما ذلك‏.‏

ب - شروط الحكمين‏:‏

75 - اشترط الفقهاء في الحكمين شروطاً هي‏:‏

أ - كمال الأهليّة، وهي‏:‏ العقل والبلوغ والرّشد، فلا يجوز تحكيم الصّغير والمجنون والسّفيه‏.‏

ب - الإسلام، فلا يحكم غير المسلم في المسلم، لما فيه من الاستعلاء عليه‏.‏

ج - الحرّيّة، فلا يحكم عبد، وللحنابلة قول آخر بجواز جعل العبد محكّماً، ما دام التّحكيم وكالةً‏.‏

د - العدالة، وهي‏:‏ ملازمة التّقوى‏.‏

هـ- الفقه بأحكام هذا التّحكيم‏.‏

و- أن يكونا من أهل الزّوجين إن أمكن على سبيل النّدب لا الوجوب‏.‏

ثمّ إن وكّل الزّوجان الحكمين بالتّفريق برضاهما كان لهما التّفريق أيضاً بعد العجز عن الجمع والتّوفيق، وفي حال التّوكيل في التّفريق يشترط إلى جانب ما تقدّم‏:‏ أن يكون الزّوجان كاملي الأهليّة راشدين، لما في ذلك من احتمال ردّ بعض المهر‏.‏

فإن وكّل الزّوجان الحكمين بالتّفريق، ثمّ جنّ أحدهما أو أغمي عليه قبل التّفريق، لغا التّوكيل، ولم يكن للحكمين غير التّوفيق، فإن غاب أحد الزّوجين قبل التّفريق لم ينعزل الحكمان، ويكون لهما التّفريق في غيبته، لأنّ الغيبة لا تبطل الوكالة، بخلاف الجنون والإغماء‏.‏

واشترط المالكيّة في الحكمين، ومعهم الشّافعيّة في مقابل الأظهر، والحنابلة في القول الثّاني‏:‏ الذّكورة، لأنّ الحكمين هنا حاكمان، ولا يجوز جعل المرأة عندهم حاكماً‏.‏ والحكمان يحكمان بالتّفريق جبراً عن الزّوجين، لأنّهما حاكمان هنا ونائبان عن القاضي، إلاّ أن يسقط الزّوجان متّفقين دعوى التّفريق قبل حكم الحكمين، فإن فعلا سقط التّحكيم ولم يجز لهما الحكم بالتّفريق به، لأنّ شرط التّحكيم هنا الدّعوى، وهذا إذا كانا محكّمين من القاضي، فإن كانا محكّمين من قبل الزّوجين من غير قاض، فكذلك ينفذ حكمهما على الزّوجين وإن لم يقبلا به، ما داما لم يعزلاهما قبل الحكم، فإن عزلاهما قبل الحكم انعزلا، ما لم يكن ذلك بعد ظهور رأيهما، فإن كان بعد ظهور رأيهما لم ينعزلا‏.‏

كما أوجب المالكيّة كون الحكمين من أهل الزّوجين، ولم يجيزا تحكيم غيرهما، إلاّ أن لا يوجد من أهلهما من يصلح للتّحكيم، فإن لم يوجد جاز تحكيم جاريهما، أو غيرهما، وندب أن يكونا جارين للعلم بحالهما غالباً‏.‏

ثمّ إذا وكّل الزّوجان الحكمين بالتّفريق مخالعةً، كان لهما ذلك بحسب رأيهما ما لم يقيّداهما بشيء، فإن قيّداهما تقيّدا به لدى الجميع‏.‏

فإذا لم يوكّلاهما بالتّفريق والمخالعة، كان لهما التّفريق عند المالكيّة دون الجمهور كما تقدّم، وهنا يملك الحكمان التّفريق بطلاق أو مخالعة بحسب رأيهما، فإن رأيا أنّ الضّرر كلّه من الزّوج طلّقا عليه، وإن رأيا أنّه كلّه من الزّوجة فرّقا بينهما بمخالعة على أن تردّ له كلّ المهر، وربّما أكثر منه أيضاً، وإن كان الضّرر بعضه من الزّوجة وبعضه من الزّوج، فرّقا بينهما مخالعةً على جزء من المهر يناسب مقدار الضّرر من كلّ‏.‏

قضاء القاضي بتفريق الحكمين بين الزّوجين

76 - إن كان المحكّمان موكّلين من الزّوجين بالتّفريق، فلا حاجة لحكم القاضي بتفريقهما، وتقع الفرقة بحكمهما مباشرةً‏.‏

وإن كانا محكّمين من القاضي، ألزما برفع حكمهما إليه لينفّذه، إلاّ أنّه لا خيار له في إنفاذه، بل هو مجبر عليه، وإن خالف اجتهاده - كما تقدّم - فإذا اختلف الحكمان ولم يتّفقا على شيء عزلهما القاضي، وعيّن حكمين آخرين بدلاً منهما، وهكذا حتّى يتّفق حكمان على شيء، فينفّذه‏.‏

نوع الفرقة الثّابتة بتفريق الحكمين

77 - ذهب المالكيّة إلى أنّ التّفريق للشّقاق طلاق بائن، سواء أكان الحكمان من قبل القاضي أم من قبل الزّوجين، وهو طلقة واحدة، حتّى لو أوقع الحكمان طلقتين أو ثلاثاً لم يقع بحكمهما أكثر من واحدة، وسواء أكان تفريقهما طلاقاً أم مخالعةً على بدل‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّهما إن فرّقا بخلع فطلاق بائن، وإن فرّقا بطلاق فهو طلاق‏.‏ وهل للزّوجين إقامة حكم واحد بدلاً من اثنين ‏؟‏ والجواب نعم، نصّ عليه المالكيّة‏.‏

وهل يكون ذلك لوليّ الزّوجين أيضاً ‏؟‏ تردّد المالكيّة فيه‏.‏

والشّافعيّة يقولون بعدم الاكتفاء بواحد للآية‏:‏ ‏{‏فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً‏}‏‏.‏

التّفريق لسوء المعاشرة

78 - نصّ المالكيّة على أنّ الزّوجة إذا أضرّ بها زوجها كان لها طلب الطّلاق منه لذلك، سواء تكرّر منه الضّرر أم لا، كشتمها وضربها ضرباً مبرّحاً‏.‏

وهل تطلق بنفسها هنا بأمر القاضي أو يطلّق القاضي عنها ‏؟‏ قولان للمالكيّة ولم أر من الفقهاء الآخرين من نصّ عليه بوضوح، وكأنّهم لا يقولون به ما لم يصل الضّرر إلى حدّ إثارة الشّقاق، فإن وصل إلى ذلك، كان الحكم كما تقدّم‏.‏

التّفريق للإعسار بالصّداق

79 - إذا أعسر الزّوج بالصّداق فقد اختلف الفقهاء في هذا على أقوال‏:‏

فذهب الحنفيّة إلى أنّه ليس لها فراقه بسبب ذلك مطلقاً، ولكن منع نفسها منه، والنّظرة إلى ميسرة، ولها كامل نفقتها‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ لها طلب التّفريق إلى جانب مالها من‏:‏ منع نفسها والنّفقة ما دام لم يدخل بها، ويؤجّل الزّوج لإثبات عسرته، فإن ظهر عجزه طلّق عليه الحاكم، فإن دخل بها الزّوج لم يكن لها طلب التّفريق‏.‏

وعند الشّافعيّة والحنابلة وجوه وأقوال ثلاثة‏:‏

الأوّل‏:‏ الفسخ مطلقاً‏.‏

والثّاني‏:‏ الفسخ ما لم يدخل بها، وإلاّ ليس لها ذلك، وهو الأظهر لدى الشّافعيّة‏.‏

والثّالث‏:‏ ليس لها الفسخ مطلقاً، وهي غريم كسائر الغرماء‏.‏

وفي ذلك تفصيل ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏إعسار ف 14‏)‏‏.‏

شروط التّفريق بالإعسار عند من يقول به

80 - يشترط للتّفريق بالإعسار شروط، هي‏:‏

أ - أن يكون الصّداق واجباً على الزّوج وجوباً حالاً‏:‏ فإذا لم يكن واجباً عليه أصلاً، كأن كان العقد فاسداً ولم يدخل بها، أو كان وجوبه مؤجّلاً كأن يشترط في العقد تأجيله، لم يكن لها طلب التّفريق بسبب ذلك، فإن سلّم البعض وأعسر بالبعض الباقي، فللشّافعيّة قولان‏:‏ الأقوى منهما‏:‏ جواز التّفريق، وهو مذهب المالكيّة والحنابلة‏.‏

ب - أن لا تكون الزّوجة قد رضيت بتأجيل المهر قبل العقد، أو بعده بطريق الدّلالة، فإذا تزوّجته عالمةً بإعساره بالمهر لم يكن لها طلب التّفريق بذلك، وكذلك إذا علمت بإعساره بعد العقد وسكتت أو رضيت به صراحةً، فإنّه لا يكون لها حقّ في طلب التّفريق للإعسار بالمهر بعد ذلك قياساً على العنّة‏.‏

وقد اتّفق القائلون بالتّفريق للإعسار بالمهر على أنّ التّفريق لا بدّ فيه من حكم قاض به، أو محكّم، لأنّه فصل مجتهد فيه، هذا إن قدرت الزّوجة على الرّفع إليهما، فإن عجزت عن ذلك، وفرّقت بنفسها جاز للضّرورة، نصّ عليه الشّافعيّة‏.‏

وإن ثبت إعساره طلّق القاضي عليه فوراً، وقيل‏:‏ ينظره مدّةً يراها مناسبة، وإن لم يثبت إعساره أنظره، وقيل‏:‏ يسجنه حتّى يدفع المهر، أو يظهر ماله فينفّذه عليه، أو يثبت إعساره فيطلّق عليه‏.‏

نوع الفرقة الثّابتة بالإعسار بالمهر

81 - ذهب المالكيّة إلى أنّ الفرقة للإعسار بالمهر طلاق بائن، وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّها فسخ، لا طلاق‏.‏

التّفريق للإعسار بالنّفقة

82 - اتّفق الفقهاء على وجوب النّفقة للزّوجة على زوجها بالعقد الصّحيح ما لم تمتنع من التّمكين، فإذا لم يقم الزّوج بها لغير مانع من الزّوجة كان لها حقّ طلبها منه بالقضاء، وأخذها جبراً عنه‏.‏

فإذا امتنع الزّوج عن دفع هذه النّفقة لمانع من الزّوجة، كنشوزها، لم يجبر عليها‏.‏

وهل يكون للزّوجة حقّ طلب التّفريق منه إذا امتنع عنها بدون سبب من الزّوجة ‏؟‏

اختلف الفقهاء في ذلك في بعض الأحوال، واتّفقوا في أحوال أخرى على ما يلي‏:‏

أ - إن كان للزّوج الممتنع عن النّفقة مال ظاهر يمكن للزّوجة أخذ نفقتها منه، بعلم الزّوج أو بغير علمه، بنفسها أو بأمر القاضي، لم يكن لها طلب التّفريق، لوصولها إلى حقّها بغير الفرقة، فلا تمكّن منها‏.‏

ويستوي هنا أن يكون الزّوج حاضراً أو غائباً، وأن يكون مال الزّوج حاضراً أو غائباً أيضاً، وأن يكون المال نقوداً أو منقولات أو عقارات، لإمكان الأخذ منها‏.‏

إلاّ أنّ الشّافعيّة نصّوا في الأظهر من قولين على أنّ ماله الظّاهر إن كان حاضراً فلا تفريق، وإن كان بعيداً عنه مسافة القصر، فلها طلب الفسخ، وإن كان دون ذلك أمره القاضي بإحضاره، ولا فسخ لها، ولو غاب وجهل حاله في اليسار والإعسار فلا فسخ، لأنّ السّبب لم يتحقّق‏.‏

ونصّ الحنابلة على أنّ ظاهر كلام أحمد، وهو رواية الخرقيّ، أنّه‏:‏ إذا لم يكن في الإمكان أخذ النّفقة من المال الغائب، فإنّ لها طلب التّفريق، وإلاّ فلا، وإن كان المال حاضراً فلا تفريق‏.‏

ب - فإذا لم يكن للزّوج الممتنع عن النّفقة مال ظاهر، سواء أكان ذلك لإعساره، أم للجهل بحاله، أم لأنّه غيّب ماله، فرفعته الزّوجة إلى القاضي طالبةً التّفريق لذلك، فقد اختلف الفقهاء في جواز التّفريق، على قولين‏:‏

فذهب الحنفيّة إلى أنّه ليس للزّوجة هنا طلب التّفريق، والقاضي يأمرها بالاستدانة على الزّوج، ويأمر من تجب عليه نفقتها - لولا زوجها - بإقراضها، فإن امتنع حبسه وعزّره حتّى يقرضها، ثمّ يعود بذلك على زوجها إذا أيسر إن شاء، وهو مذهب عطاء، والزّهريّ، وابن شبرمة، وحمّاد بن أبي سليمان، وغيرهم‏.‏

وذهب المالكيّة والحنابلة، إلى أنّ الزّوج إذا أعسر بالنّفقة فالزّوجة بالخيار، إن شاءت بقيت على الزّوجيّة واستدانت عليه، وإن شاءت رفعت أمرها للقاضي طالبةً فسخ نكاحها، والقاضي يجيبها إلى ذلك حالاً، أو بعد التّلوّم للزّوج، رجاء مقدرته على الإنفاق، على اختلاف بينهم في ذلك، وهذا القول هو المرويّ عن عمر، وعليّ، وأبي هريرة رضي الله عنهم وهو مذهب سعيد بن المسيّب، والحسن، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم‏.‏

شروط التّفريق لعدم الإنفاق عند من يقول به

83 - يشترط للتّفريق لعدم الإنفاق - عند من يقول - به شروط، هي‏:‏

أ - أن يثبت إعسار الزّوج بالنّفقة، وذلك بتصادقهما أو بالبيّنة، وذلك في الأظهر عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

أمّا المالكيّة، وهو قول آخر للشّافعيّة، وهو مقابل الأظهر والحنابلة فلا يرد هذا الشّرط عندهم‏.‏

ب - أن يكون الإعسار أو الامتناع الموجب للفرقة هو امتناع عن أقلّ النّفقة، وهي نفقة المعسرين، ولو كانت الزّوجة غنيّةً، أو الزّوج الممتنع غنيّاً أيضاً، لأنّ التّفريق إنّما يثبت هنا ضرورة دفع الهلاك عن الزّوجة، وهو إنّما يتحقّق بالعجز عن نفقة المعسرين، لا النّفقة المستحقّة لها مطلقاً‏.‏

وعلى هذا فلو كان الزّوج غنيّاً وامتنع عن الإنفاق إلاّ نفقة المعسرين - وهي الضّروريّ من الطّعام والكساء ولو خشناً - لم يفرّق‏.‏

هذا والإعسار والامتناع عن الإنفاق يشمل هنا الطّعام والكساء بالاتّفاق، لأنّ الحياة لا تقوم بدونهما‏.‏

أمّا الإعسار بالمسكن، فقد ذهب الشّافعيّة إلى أنّ الأصحّ أنّ لها الفسخ‏.‏

وكذلك الإعسار بالأدم، إلاّ أنّ النّوويّ صحّح عدم الفسخ بالإعسار بالأدم، لأنّه غير ضروريّ لإدامة الحياة‏.‏

أمّا الحنابلة فعندهم في التّفريق للإعسار بالمسكن وجهان‏:‏

الأوّل‏:‏ أنّ لها التّفريق به كالطّعام والكساء‏.‏

والثّاني‏:‏ لا تفريق لها به، لأنّ البنية تقوم بدونه، وهذا الوجه هو الّذي ذكره القاضي‏.‏ وأمّا المالكيّة فلا يرون التّفريق للعجز عن المسكن قولاً واحداً، لأنّه غير ضروريّ‏.‏

ج - أن لا يكون للزّوج مال ظاهر حاضر يمكنها أخذ نفقتها منه بنفسها أو بطريق القاضي، وإلاّ لم يكن لها التّفريق بالاتّفاق، فإذا كان المال غائباً، فقد تقدّم الاختلاف فيه على أقوال‏.‏

د - أن يكون امتناع الزّوج عن النّفقة الحاضرة بعد وجوبها عليه، فإذا امتنع عن النّفقة الماضية دون الحاضرة لم يكن لها الفسخ بالاتّفاق، لأنّها دين كسائر الدّيون، وليست ضروريّةً للإبقاء على الحياة‏.‏

فإذا امتنع الزّوج عن النّفقة المستقبلة، فقد ذهب المالكيّة إلى أنّ الزّوج إذا أراد السّفر فعليه أن يؤمّن لزوجته نفقتها مدّة غيابه، فإذا أعسر بذلك كان لها طلب الفرقة منه، إلاّ أنّ بعض المالكيّة قال‏:‏ إنّ لها المطالبة بها فقط دون التّفريق، فإذا سافر ونفّذ ما عندها من النّفقة كان لها طلب التّفريق آنئذ‏.‏

فإذا كان الزّوج مقيماً فلا حقّ للزّوجة في نفقة مستقبلة، وبالتّالي فلا حقّ لها في طلب التّفريق لمنعها منها‏.‏

فإذا امتنع الزّوج عن النّفقة قبل وجوبها عليه أصلاً، كأن لم تخلّ بينه وبينها، أو سقط حقّها في النّفقة كنشوزها، فإنّه لا حقّ لها في طلب التّفريق لعدم الحقّ في النّفقة أصلاً‏.‏

هـ – أن لا تكون قد رضيت بالمقام معه مع عسرته أو ترك إنفاقه مطلقاً، صراحةً أو ضمناً، أو شرط عليها ذلك في العقد أو بعده ورضيت به، فإن كان ذلك لم يكن لها حقّ في طلب التّفريق لدى المالكيّة والحنابلة في قول‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة في قول ثان إلى أنّ لها طلب فسخ النّكاح إذا أعسر الزّوج بالنّفقة ولو رضيت به قبل ذلك، لأنّ وجوب النّفقة يتجدّد في كلّ يوم‏.‏

نوع الفرقة بالامتناع عن الإنفاق وطريق وقوعها

84 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الفرقة لعدم الإنفاق فسخ ما دامت بحكم القاضي، فإن طلب القاضي من الزّوج طلاقها فطلّقها كانت طلاقاً رجعيّاً ما لم يبلغ الثّلاث، أو يكن قبل الدّخول، وإلاّ فبائن‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّها طلاق رجعيّ، ولهذا كان للزّوج حقّ مراجعتها في العدّة عندهم، إلاّ أنّ المالكيّة اشترطوا هنا لصحّة الرّجعة أن يجد الزّوج يساراً لنفقتها الواجبة عليه، وليس النّفقة الضّروريّة الّتي فرّق من أجلها، فإذا راجعها دون ذلك لم تصحّ الرّجعة‏.‏

وأمّا طريق وقوع الفرقة، فقد اتّفق القائلون بالتّفريق لعدم الإنفاق على أنّها لا تكون بغير القاضي، ذلك أنّها فصل مجتهد فيه، وما كان كذلك لا يتمّ بغير القضاء، إزالةً للخلاف، لكنّ الشّافعيّة قيّدوا ذلك بما إذا قدرت على الرّفع للقاضي، فإن استقلّت بالفسخ لعدم حاكم أو محكّم، أو عجزت عن الرّفع إلى القاضي نفذ ظاهراً وباطنًا للضّرورة‏.‏

85 - وأمّا وقت القضاء بها، فقد اختلفوا فيه على أقوال‏:‏

فذهب الشّافعيّة في القديم إلى أنّ القاضي ينجّز الفرقة بعد ثبوت الإعسار بالنّفقة - بالتّصادق أو البيّنة - دون إنظار، إلاّ أنّ الأظهر لديهم إمهال الزّوج ثلاثة أيّام ولو لم يطلب ذلك للتّحقّق من عجزه، فإنّه قد يعجز لعارض ثمّ يزول، وهي مدّة قريبة يتوقّع فيها القدرة بقرض أو غيره، فإذا مضت دون القدرة، فرّق القاضي عليه‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ الفسخ يكون على الفور عند ثبوت الإعسار دون إمهال كخيار العيب‏.‏ وفصّل المالكيّة في ذلك، فقالوا‏:‏ إذا رفعت الزّوجة أمرها للقاضي، فإنّ القاضي يسأل الزّوج، فإن ادّعى الإعسار وأثبته تلوّم له القاضي باجتهاده، فإن مضت المدّة ولم ينفق، طلّق عليه، وإن لم يثبت إعساره، أو ادّعى اليسار، أو سكت ولم يجب بشيء، أمره القاضي بالإنفاق أو الطّلاق، فإن أبى طلّق عليه حالاً من غير تلوّم على المعتمد عندهم، وقيل‏:‏ يطلّق عليه بعد التّلوّم أيضاً‏.‏

وهذا كلّه إذا كان الزّوج حاضراً، فإن كان غائباً غيبةً قريبةً يقلّ بعدها عن عشرة أيّام، كتب القاضي إليه بالحضور والخيار بين الإنفاق أو الفراق، فإن حضر واختار أحدهما فبها، وإلاّ طلّق عليه، وكذلك إذا لم يحضر، هذا إذا كان يعلم مكانه‏.‏ فإذا كان لا يعلم مكانه، أو كان مكانه بعيداً أكثر من عشرة أيّام فإنّه يطلّق عليه فوراً‏.‏

التّفريق للغيبة والفقد والحبس

86 - الغائب هو‏:‏ من غادر مكانه لسفر ولم يعد إليه، وحياته معلومة، فإذا جهلت حياته فهو المفقود، أمّا المحبوس فهو‏:‏ من قبض عليه وأودع السّجن بسبب تهمة أو جناية أو غير ذلك‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في زوجة الغائب والمفقود والمحبوس إذا طلبت التّفريق لذلك، هل تجاب إلى طلبها ‏؟‏ على أقوال بيانها فيما يلي‏:‏

أ - التّفريق للغيبة‏:‏

87 - اختلف الفقهاء في جواز التّفريق للغيبة على أقوال مبناها اختلافهم في حكم استدامة الوطء، أهو حقّ للزّوجة مثل ما هو حقّ للزّوج ‏؟‏

فذهب الحنفيّة، والشّافعيّة، والحنابلة في قول القاضي، إلى أنّ دوام الوطء قضاء حقّ للرّجل فقط، وليس للزّوجة فيه حقّ، فإذا ما ترك الزّوج وطء زوجته مدّةً لم يكن ظالماً لها أمام القاضي، سواء أكان في ذلك حاضراً أم غائباص، طالت غيبته أم لا، لأنّ حقّها في الوطء قضاء ينقضي بالمرّة الواحدة، فإذا استوفتها لم يعد لها في الوطء حقّ في القضاء، وعلى هذا فإذا غاب الزّوج عن زوجته مدّةً ما مهما طالت، وترك لها ما تنفق منه على نفسها، لم يكن لها حقّ طلب التّفريق لذلك، إلاّ أنّ الحنابلة في قولهم هذا قيّدوا عدم وجوب الوطء بعدم قصد الإضرار بالزّوجة، فإذا قصد بذلك الإضرار بها عوقب وعزّر، لاختلال شرط سقوط الوجوب‏.‏

وذهب الحنابلة في قولهم الثّاني وهو الأظهر إلى أنّ استدامة الوطء واجب للزّوجة على زوجها قضاءً، ما لم يكن بالزّوج عذر مانع من ذلك كمرض أو غيره، وعلى هذا فإذا غاب الزّوج عن زوجته مدّةً بغير عذر، كان لها طلب التّفريق منه، فإذا كان تركه بعذر لم يكن لها ذلك‏.‏

أمّا المالكيّة، فقد ذهبوا إلى أنّ استدامة الوطء حقّ للزّوجة مطلقاً، وعلى ذلك فإنّ الرّجل إذا غاب عن زوجته مدّةً، كان لها طلب التّفريق منه، سواء أكان سفره هذا لعذر أم لغير عذر، لأنّ حقّها في الوطء واجب مطلقاً عندهم‏.‏

شروط التّفريق للغيبة عند من يقول بها

88 - يشترط في الغيبة ليثبت التّفريق بها للزّوجة شروط، وهي‏:‏

أ - أن تكون غيبةً طويلةً، وقد اختلف الفقهاء في مدّتها‏:‏

فذهب الحنابلة إلى أنّ الزّوج إذا غاب عن زوجته مدّة ستّة أشهر فأكثر كان لها طلب التّفريق عليه إذا تحقّقت الشّروط الأخرى، وذلك استدلالاً بما روى أبو حفص بإسناده عن زيد بن أسلم رضي الله عنه، قال‏:‏ إنّ عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه بينما كان يحرس المدينة مرّ بامرأة في بيتها وهي تقول‏:‏

تطاول هذا اللّيل واسودّ جانبه *** وطال عليّ أن لا حبيب ألاعبه

وواللّه لولا خشية اللّه وحده *** لَحُرِّك من هذا السّرير جوانبه

فسأل عمر عنها فقيل له‏:‏ هذه فلانة زوجها غائب في سبيل اللّه تعالى، فأرسل إلى امرأة تكون معها، وبعث إلى زوجها فأقفله، ثمّ دخل على حفصة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها فقال‏:‏ يا بنيّة كم تصبر المرأة عن زوجها ‏؟‏ فقالت‏:‏ سبحان اللّه أمثلك يسأل مثلي عن هذا ‏؟‏ فقال‏:‏ لولا أنّي أريد النّظر للمسلمين ما سألتك، قالت‏:‏ خمسة أشهر، ستّة أشهر، فوقّت للنّاس في مغازيهم ستّة أشهر، يسيرون شهراً، ويقيمون أربعة أشهر ويسيرون شهراً راجعين‏.‏

وذهب المالكيّة في المعتمد عندهم، إلى أنّها سنة فأكثر، وفي قول للغريانيّ وابن عرفة أنّ السّنتين والثّلاث ليست بطول، بل لا بدّ من الزّيادة عليها، وهذا مبنيّ منهم على الاجتهاد والنّظر‏.‏

ب - أن تخشى الزّوجة على نفسها الضّرر بسبب هذه الغيبة، والضّرر هنا هو خشية الوقوع في الزّنى كما نصّ عليه المالكيّة، وليس اشتهاء الجماع فقط، والحنابلة وإن أطلقوا الضّرر هنا إلاّ أنّهم يريدون به خشية الزّنى كالمالكيّة‏.‏

إلاّ أنّ هذا الضّرر يثبت بقول الزّوجة وحدها، لأنّه لا يعرف إلاّ منها، إلاّ أن يكذّبها ظاهر الحال‏.‏

ج - أن تكون الغيبة لغير عذر، فإن كانت لعذر كالحجّ والتّجارة وطلب العلم لم يكن لها طلب التّفريق عند الحنابلة‏.‏

أمّا المالكيّة فلا يشترطون ذلك كما تقدّم، ولهذا يكون لها حقّ طلب التّفريق عندهم إذا طالت غيبته لعذر أو غير عذر على سواء‏.‏

د - أن يكتب القاضي إليه بالرّجوع إليها أو نقلها إليه أو تطليقها ويمهله مدّةً مناسبةً، إذا كان له عنوان معروف، فإن عاد إليها، أو نقلها إليه أو طلّقها فبها، وإن أبدى عذراً لغيابه لم يفرّق عليه عند الحنابلة دون المالكيّة، وإن أبى ذلك كلّه، أو لم يردّ بشيء وقد انقضت المدّة المضروبة، أو لم يكن له عنوان معروف، أو كان عنوانه لا تصل الرّسائل إليه طلّق القاضي عليه بطلبها‏.‏

نوع الفرقة للغيبة، وطريق وقوعها

89 - اتّفق الفقهاء القائلون بالتّفريق للغيبة على أنّه لا بدّ فيها من قضاء القاضي لأنّها فصل مجتهد فيه، فلا تنفّذ بغير قضاء‏.‏

ونصّ الحنابلة على أنّ الفرقة للغيبة فسخ، ونصّ المالكيّة على أنّها طلاق، وهل هي طلاق بائن ‏؟‏ لم نر من المالكيّة من صرّح في ذلك بشيء، إلاّ أنّ إطلاقاتهم تفيد أنّها طلاق بائن، فقد جاء في رسالة ابن أبي زيد القيروانيّ قوله‏:‏ إنّ كلّ طلاق يوقعه الحاكم طلاق بائن إلاّ طلاق المولي وطلاق المعسر بالنّفقة، ثمّ إنّه طلاق للضّرر – وهو بائن عندهم كما تقدّم – إلاّ أنّ الدّسوقيّ أورد الفرقة للغيبة في ضمن الكلام عن الفرقة للإيلاء، وهي طلاق رجعيّ، فاحتمل أن تكون مثلها طلاقاً رجعيّاً، إلاّ أنّ الاحتمال الأوّل هو الأرجح‏.‏

ب - التّفريق للفقد‏:‏

90 - إذا غاب الزّوج عن زوجته غيبةً منقطعةً خفيت فيها أخباره، وجهلت فيها حياته، فهل لزوجته حقّ طلب التّفريق عليه ‏؟‏ الفقهاء في ذلك على مذاهب تقدّم بيانها في الغائب، ذلك أنّ المفقود غائب وزيادة، فيكون لزوجة المفقود ما لزوجة الغائب من أمر التّفريق عليه‏.‏

فإذا لم تطلب زوجته المفارقة، فهل تكون على زوجيّته عمرها كلّه ‏؟‏

في هذا الموضوع أحوال وشروط، اتّفق الفقهاء في بعضها، واختلفوا في بعضها الآخر على أقوال بيانها فيما يلي‏:‏

أ - إذا كان ظاهر غيبة الزّوج السّلامة، كما إذا غاب في تجارة أو طلب علم، ولم يعد، وخفيت أخباره وانقطعت، فقد ذهب أبو حنيفة، والشّافعيّ في الجديد، وأحمد إلى أنّه حيّ في الحكم، ولا تنحلّ زوجيّته حتّى يثبت موته بالبيّنة الشّرعيّة أو بموت أقرانه، وهو مذهب ابن شبرمة، وابن أبي ليلى‏.‏

وذهب الشّافعيّ في القديم إلى أنّ الزّوجة تتربّص في هذه الحال أربع سنين من غيبته، ثمّ يحكم بوفاته، فتعتدّ بأربعة أشهر وعشر، وتحلّ بعدها للأزواج‏.‏

ب - وإن كان ظاهر غيبته الهلاك، كمن فقد بين أهله ليلاً أو نهاراً، أو خرج إلى الصّلاة ولم يعد، أو فقد في ساحة القتال، فقد ذهب أحمد في الظّاهر من مذهبه، والشّافعيّ في القديم إلى أنّ زوجته تتربّص أربع سنين، ثمّ يحكم بوفاته فتعتدّ بأربعة أشهر وعشر، ثمّ تحلّ للأزواج، وهو قول عمر، وعثمان، وعليّ، وابن عبّاس رضي الله عنهم، وغيرهم‏.‏ وذهب الحنفيّة، والشّافعيّ في الجديد، إلى أنّها لا تتزوّج حتّى يتبيّن موته بالبيّنة أو بموت الأقران، مهما طالت غيبته، كمن غاب وظاهر غيبته السّلامة على سواء‏.‏

وللمالكيّة تقسيم خاصّ في زوجة المفقود، هو‏:‏

أنّ المفقود إمّا أن يفقد في حالة حرب أو حالة سلم، وقد يكون فقده في دار الإسلام، أو دار الشّرك، وقد يفقد في قتال بين طائفتين من المسلمين، أو طائفة مسلمة وأخرى كافرة، ولكلّ من هذه الحالات حكم خاصّ بها عندهم بحسب ما يلي‏:‏

أ - فإذا فقد في حالة السّلم في دار الإسلام، فإنّ زوجته تؤجّل أربع سنين، ثمّ تعتدّ عدّة الوفاة، ثمّ تحلّ للأزواج، هذا إن دامت نفقتها من ماله، وإلاّ طلّق عليه لعدم النّفقة‏.‏

ب - وإذا فقد في دار الشّرك، كالأسير لا يعلم له خبر، فإنّ زوجته تبقى مدّة التّعمير أي موت أقرانه، حيث يغلب على الظّنّ عندها موته، ثمّ تعتدّ عدّة الوفاة، ثمّ تحلّ للأزواج، وقدّروا ذلك ببلوغه السّبعين من العمر، وقيل‏:‏ الثّمانين، وقيل غير ذلك، وهذا إن دامت نفقتها، وإلاّ طلقت عليه‏.‏

ج - فإن فقد في حالة حرب بين طائفتين من المسلمين، فإنّها تعتدّ عقب انفصال الصّفّين وخفاء حاله، وتحلّ بعدها للأزواج‏.‏

د - وإن كانت الحرب بين طائفة مؤمنة وأخرى كافرة، فإنّه يكشف عن أمره، ويسأل عنه، فإن خفى حاله أجّلت زوجته سنةً، ثمّ اعتدّت للوفاة، ثمّ حلّت للأزواج‏.‏

نوع الفرقة للفقد، وطريق وقوعها

91 - إذا لم يرفع المفقود للقاضي من قبل زوجته أو أحد ورثته أو المستحقّين في تركته، فهو حيّ في حقّ زوجته العمر كلّه بالاتّفاق‏.‏

فإذا رفع إلى القاضي وقضى بموته، بحسب ما تقدّم من الشّروط والأحوال والاختلاف، انقضت الزّوجيّة حكماً من تاريخ الحكم بالوفاة، وبانت زوجته واعتدّت للوفاة جبراً، وهي بينونة وفاة، لا بينونة طلاق أو فسخ‏.‏

هذا ولا بدّ لحلول هذه الفرقة من قضاء القاضي بموته، وإلاّ فهي زوجته العمر كلّه، وقد نصّ المالكيّة على أنّه يحلّ محلّ القاضي في الحكم بالوفاة هنا عند الحاجة الوالي، وجماعة المسلمين‏.‏

فإذا ظهر المفقود حيّاً بعد الحكم بوفاته، فإن كانت زوجته لم تتزوّج غيره بعد عدّتها فهي له، وإن تزوّجت غيره، فإن كان الزّواج غير صحيح، أو كان الزّوج الجديد يعلم بحياة الأوّل، فكذلك، وإن كان الزّواج صحيحاً، ولا يعلم الزّوج الثّاني بحياة الأوّل، فهي للثّاني إن دخل بها، عند الجمهور، وإلاّ فهي للأوّل أيضاً‏.‏

ج - التّفريق للحبس‏:‏

92 - إذا حبس الزّوج مدّةً عن زوجته، فهل لزوجته طلب التّفريق كالغائب ‏؟‏

الجمهور على عدم جواز التّفريق على المحبوس مطلقاً، مهما طالت مدّة حبسه، وسواء أكان سبب حبسه أو مكانه معروفين أم لا، أمّا عند الحنفيّة والشّافعيّة فلأنّه غائب معلوم الحياة، وهم لا يقولون بالتّفريق عليه كما تقدّم، وأمّا عند الحنابلة فلأنّ غيابه لعذر‏.‏ وذهب المالكيّة إلى جواز التّفريق على المحبوس إذا طلبت زوجته ذلك وادّعت الضّرر، وذلك بعد سنة من حبسه، لأنّ الحبس غياب، وهم يقولون بالتّفريق للغيبة مع عدم العذر، كما يقولون بها مع العذر على سواء كما تقدّم‏.‏

التّفريق للعيب

93 - اتّفق فقهاء المذاهب الأربعة على جواز التّفريق بين الزّوجين للعيوب‏.‏

إلاّ أنّ الحنفيّة خصّوا التّفريق هذا بعيوب الزّوج دون عيوب الزّوجة، وجعلوا التّفريق به حقّاً للزّوجة وحدها، لامتلاكه الطّلاق دونها‏.‏

أمّا المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة فقد ذهبوا إلى جواز التّفريق لعيب الرّجل والمرأة على سواء، وأنّ التّفريق للعيب حقّ لهما على سواء‏.‏

إلاّ أنّ الفقهاء جميعاً اتّفقوا على تضييق دائرة التّفريق للعيب، وعدم التّوسّع فيه، ثمّ اختلفوا في العيوب المثبتة للتّفريق على أقوال‏:‏

فذهب الشّيخان من الحنفيّة - أبو حنيفة وأبو يوسف - إلى التّفريق بالجبّ، والعنّة، والخصاء فقط، وزاد محمّد بن الحسن على ذلك‏:‏ الجنون‏.‏

وذهب الجمهور إلى التّفريق بعيوب اتّفقوا في بعضها، واختلفوا في بعضها الآخر على أقوال، وقسّموها إلى ثلاثة أنواع‏:‏

قسم منها خاصّ بالرّجال، وقسم خاصّ بالنّساء، وقسم مشترك بين النّساء والرّجال‏.‏

فعند المالكيّة يفرّق بالعيوب التّالية‏:‏

عيوب الرّجال وهي‏:‏ الجبّ، والخصاء والعنّة، والاعتراض‏.‏

وعيوب النّساء هي‏:‏ الرّتق، والقرن، والعفل، والإفضاء، والبخر‏.‏

والعيوب المشتركة هي‏:‏ الجنون، والجذام، والبرص، والعذيطة والخناثة المشكلة‏.‏

وعند الشّافعيّة يفرّق بالعيوب التّالية‏:‏

عيوب الرّجال وهي‏:‏ العنّة، والجبّ‏.‏

وعيوب النّساء هي‏:‏ الرّتق، والقرن‏.‏

والعيوب المشتركة هي‏:‏ الجنون، والجذام والبرص‏.‏

وعند الحنابلة يفرّق بالعيوب التّالية‏:‏

عيوب خاصّة بالرّجال هي‏:‏ العنّة، والجبّ‏.‏

وعيوب خاصّة بالنّساء هي‏:‏ الفتق، والقرن، والعفل‏.‏

وعيوب مشتركة، هي‏:‏ الجنون، والبرص، والجذام‏.‏

إلاّ أنّ أبا بكر، وأبا حفص من الحنابلة زادا على العيوب المتقدّمة استطلاق البطن، وسلس البول، وقال أبو الخطّاب‏:‏ ويتخرّج على ذلك من به النّاسور والباسور، والقروح السّيّالة في الفرج، لأنّها تثير النّفرة، وتعدي بنجاستها، وقال أبو حفص‏:‏ الخصاء عيب، وفي البخر والخناثة وجهان‏.‏

94 - وظاهر نصوص الفقهاء توحي بالحصر في هذه العيوب، فقد جاء في المغني‏:‏ أنّه لا يثبت الخيار لغير ما ذكرناه‏.‏

وجاء في مغني المحتاج قوله‏:‏ واختصار المصنّف على ما ذكر من العيوب يقتضي أنّه لا خيار فيما عداها، قال في الرّوضة‏:‏ وهو الصّحيح الّذي قطع به الجمهور‏.‏

وجاء في بداية المجتهد قوله‏:‏ واختلف أصحاب مالك في العلّة الّتي من أجلها قصر الرّدّ على هذه العيوب الأربعة، فقيل‏:‏ لأنّ ذلك شرع غير معلّل، وقيل‏:‏ لأنّ ذلك ممّا يخفى، ومحمل سائر العيوب على أنّها ممّا لا يخفى، وقيل‏:‏ لأنّها يخاف سرايتها إلى الأبناء‏.‏

إلاّ أنّنا إلى جانب هذه النّصوص نجد نصوصاً لبعض الفقهاء تدلّ على عدم قصر الأئمّة التّفريق على العيوب المتقدّمة، فيلحق بها ما يماثلها في الضّرر‏.‏

من ذلك ما قاله ابن تيميّة في الاختيارات العلميّة‏:‏ وتردّ المرأة بكلّ عيب ينفّر عن كمال الاستمتاع‏.‏

وما قاله ابن قيّم الجوزيّة في زاد المعاد‏:‏ وأمّا الاقتصار على عيبين أو ستّة، أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها أو مساو لها فلا وجه له، فالعمى والخرس والطّرش، وكونها مقطوعة اليدين والرّجلين أو أحدهما، أو كون الرّجل كذلك من أعظم المنفّرات‏.‏ وقوله‏:‏ والقياس أنّ كلّ عيب ينفّر الزّوج الآخر منه، ولا يحصل به مقصود النّكاح من الرّحمة والمودّة يوجب الخيار‏.‏

وما قاله الكاسانيّ‏:‏ وقال محمّد‏:‏ خلوّه من كلّ عيب لا يمكنها المقام معه إلاّ بضرر، كالجنون، والجذام، والبرص شرط للزوم النّكاح، حتّى يفسخ به النّكاح حيث جاءت هذه العيوب بصيغة التّمثيل‏.‏

هذا إلى جانب أنّ نصوص الفقهاء عامّة كانت تعلّل التّفريق للعيب بالضّرر الفاحش وبالعدوى، وعدم القدرة على الوطء، وهو ظاهر في جواز القياس عليها‏.‏

شروط التّفريق للعيب لدى الفقهاء

اختلف الفقهاء في الشّروط المثبتة للتّفريق للعيب على مذهبين، وفق ما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ ذهب الجمهور إلى أنّ التّفريق بالعيب يشترط فيه ما يلي‏:‏

أ - عدم الرّضا بالعيب‏:‏

95 - قبل الدّخول أو بعده، في العقد أو بعده، صراحةً أو دلالةً، فإن رضي السّليم من الزّوجين، كأن يقول‏:‏ رضيت بعيب الآخر، أو يطأها، أو تمكّنه من الوطء، فإنّه لا خيار لهؤلاء في الفسخ بعد ذلك‏.‏

هذا مذهب الحنابلة، والشّافعيّة يوافقونهم فيه إلاّ في مسألة العنّين، فإنّ زوجته إذا رضيت بعنّته بعد الدّخول فلا خيار لها عندهم خلافاً للحنابلة‏.‏

ومذهب المالكيّة يوافق مذهب الحنابلة أيضاً إلاّ في مسألة المعترض، وهو العنّين عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إذا مكّنته من التّلذّذ بها بعد علمها باعتراضه، فإنّه لا يسقط بذلك حقّها في التّفريق عند المالكيّة، لاحتمال أنّها كانت ترجو برأه بذلك‏.‏

قال الدّردير في الشّرح الكبير‏:‏ الخيار لأحد الزّوجين بسبب وجود عيب من العيوب الآتي بيانها، إن لم يسبق العلم، أو لم يرض بعيب المعيب صريحاً أو التزاماً حيث اطّلع، إلاّ امرأة المعترض إذا علمت قبل العقد أو بعده باعتراضه ومكّنته من التّلذّذ بها، فلها الخيار، حيث كانت ترجو برأه فيهما ولم يحصل‏.‏

وهل يعدّ الرّضا بالعيب قبل النّكاح مسقطاً للخيار، كما لو أخبرها بعنّته فرضيت بذلك صراحةً أو دلالةً ‏؟‏

الجمهور على أنّ ذلك مسقط للخيار، وقال الشّافعيّ في الجديد كذلك، إلاّ في العنّين، فإنّه قال‏:‏ يؤجّل، لأنّه قد يكون عنّيناً في نكاح دون نكاح، ثمّ إنّ عجزه عن وطء امرأة ليس دليلاً على عجزه عن وطء غيرها‏.‏

ب - سلامة طالب الفسخ من العيوب في الجملة‏:‏

96 - المبدأ العامّ لدى الجمهور‏:‏ أنّه لا يشترط لطلب التّفريق بالعيب سلامة طالب التّفريق من العيوب، خلافاً للحنفيّة، كما تقدّم، إلاّ أنّهم اختلفوا في ذلك في بعض الصّور، على ما يلي‏:‏

فذهب المالكيّة - فيما فصّله اللّخميّ من مذهبهم - إلى أنّ طالب التّفريق للعيب إذا كان فيه عيب مماثل للآخر، فإنّ للزّوج التّفريق دون المرأة لأنّه بذل الصّداق لسالمة، دونها هي، قال اللّخميّ‏:‏ وإن اطّلع كلّ واحد من الزّوجين على عيب في صاحبه، فإن كانا من جنس واحد كجذام، أو برص أو جنون صريح لم يذهب، فإنّ له القيام دونها، لأنّه بذل صداقاً لسالمة، فوجدها ممّن يكون صداقها أقلّ من ذلك‏.‏

فإذا كان عيبه من جنس آخر كان لكلّ واحد من الزّوجين طلب التّفريق مطلقاً وفي قول آخر للمالكيّة‏:‏ له التّفريق مطلقاً، سواء أكان عيبه من جنس عيبه، أم لا، أم لم يكن معيباً، وهو الأظهر عندهم‏.‏

وذهب الشّافعيّة في الأصحّ، إلى أنّ للمعيب أن يطلب فسخ النّكاح لعيب الآخر، وسواء أكان عيبه من جنس عيبه أم لا، وقيل‏:‏ إن وجد به مثل عيبه من الجذام والبرص، قدراً وفحشاً مثلاً، فلا خيار له لتساويهما‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ طالب الفسخ، إذا كان معيباً بعيب من غير جنس عيب الآخر، كالأبرص يجد المرأة مجنونةً، فلكلّ واحد منهما الخيار لوجود سببه، إلاّ أن يجد المجبوب المرأة رتقاء، فلا ينبغي ثبوت الخيار لهما، لأنّ عيبه ليس هو المانع لصاحبه من الاستمتاع‏.‏

فإن كان عيبه من جنس عيب صاحبه، ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا خيار لهما، لأنّهما متساويان، ولا مزيّة لأحدهما على صاحبه، فأشبها الصّحيحين‏.‏

والثّاني‏:‏ له الخيار لوجود سببه‏.‏

ج - وهل يشترط أن يكون العيب قديماً ‏؟‏

97 – جمهور الفقهاء متّفقون على أنّ العيب القديم السّابق على العقد، والمرافق له، والحادث بعده، سواء في إثبات الخيار، لأنّه عقد على منفعة، وحدوث العيب بها يثبت الخيار كما في الإجارة، إلاّ أنّ بينهم نوع اختلاف في بعض ذلك على ما يلي‏:‏

فالمالكيّة يصرّحون بأنّ العيب القديم السّابق على العقد أو المقارن له هو المثبت للخيار، أمّا العيب الطّارئ على العقد، فإن كان في الزّوجة لم يكن للزّوج خيار مطلقاً، وهو مصيبة حلّت به، وبإمكانه التّخلّص منها بالطّلاق، وأمّا العيب الحادث في الزّوج بعد العقد، فإن كان فاحشاً كثير الضّرر فإنّها تخيّر فيه، لأنّه لا تمكن معه العشرة، وإن كان يسيراً لم تخيّر‏.‏

والعيوب الفاحشة عند المالكيّة هي‏:‏ الجذام البيّن المحقّق ولو كان يسيراً، والبرص الفاحش دون اليسير، والعذيطة، فقد استظهر بعض المالكيّة أنّها عيب فاحش يثبت به الخيار، والاعتراض، والخصاء، وكبر الذّكر المانع من الوطء، هذا إذا حدثت قبل الوطء، فإذا حدثت بعد الوطء ولو مرّةً واحدةً فلا خيار، إلاّ أن يكون ذلك بسبب من الزّوج كأن جبّ نفسه، فإن كان كذلك خيّرت الزّوجة‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّ العيب القديم يخيّر به مطلقاً، أمّا العيب الحادث بعد العقد، فإن كان حادثاً بالزّوج، كالجبّ، فإنّها تخيّر به إن كان قبل الدّخول جزماً، وبعد الدّخول على الأصحّ، وذلك لحصول الضّرر به كما في العيب المقارن للعقد، ولا خلاص لها إلاّ بالفسخ، فتعيّن طريقاً لذلك، ويستوي هنا أن تجبّه هي أو غيرها‏.‏

إلاّ أنّ الشّافعيّة استثنوا من ذلك العنّين، فقالوا‏:‏ إن وصل إلى زوجته مرّةً ثمّ تعنّن، لم يكن لها خيار‏.‏

وإن كان حادثاً بالزّوجة بعد العقد، ففي القول القديم‏:‏ أنّه لا يخيّر الزّوج لتمكّنه من الخلاص منها بالطّلاق، بخلافها‏.‏

وفي القول الجديد‏:‏ أنّه يخيّر كالزّوجة، لتضرّره بالعيب الطّارئ كتضرّره بالعيب القديم، ولا معنى لإمكان تخلّصه منها بالطّلاق دونها، لأنّه سيغرم نصف الصّداق لها قبل الدّخول، دون الفسخ بالعيب‏.‏

وذهب الخرقيّ من الحنابلة إلى تأكيد ما تقدّم من المبدأ على إطلاقه، إلاّ أنّ أبا بكر وابن حامد من الحنابلة قالا‏:‏ إنّ العقد يفسخ بالعيب السّابق على العقد، والمرافق له، دون العيب الطّارئ عليه، لأنّ العقد أصبح لازماً، فلا ينفسخ، فأشبه العيب الطّارئ على المبيع، واستثنى الحنابلة - على رواية الخرقيّ - العنّة، فإنّ العنّين إن وصل إلى زوجته مرّةً ثمّ تعنّن، لم يكن لها خيار‏.‏

د - التّأجيل في العيوب الّتي يرجى البرء منها‏:‏

98 - اتّفق المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على تأجيل العنّين سنةً كالحنفيّة، واختلفوا في باقي العيوب على ما يلي‏:‏

فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى عدم التّأجيل فيها‏.‏

وذهب المالكيّة إلى التّأجيل فيما يرجى البرء منه، فقالوا بالتّأجيل في الجنون، والجذام والبرص، والرّتق، والقرن، والعفل، والبخر، فإذا كان البرء منها مرجوّاً يؤجّله القاضي بحسب ما يراه مناسباً، شهراً أو شهرين، ولم يحدّوا لذلك حدّاً، فإذا لم يكن البرء من ذلك مرجوّاً، كالجبّ، فرّق القاضي عليه بدون تأجيل، لعدم فائدته‏.‏

99 - هـ – أن يطلب أحد الزّوجين التّفريق ويثبت عيب الآخر، لأنّ التّفريق هنا حقّه، فإذا لم يطلبه لم يكن للقاضي التّفريق عليه جبراً، وفي العنّين يجب طلب الزّوجة التّفريق قبل ضرب المدّة وبعدها‏.‏

قال في المغني‏:‏ ولا يفسخ حتّى تختار الفسخ، وتطلبه، لأنّه لحقّها، فلا تجبر على استيفائه كالفسخ بالإعسار‏.‏

وقال في مغني المحتاج‏:‏ فإذا تمّت تلك السّنة المضروبة للزّوج، ولم يطأ على ما يأتي، ولم تعتزله فيها، رفعته ثانياً إليه، أي القاضي، فلا يفسخ بلا رفع، إذ مدار الباب على الدّعوى والإقرار والإنكار واليمين، فيحتاج إلى نظر القاضي واجتهاده‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ للتّفريق بالعيب نوعين من الشّروط، الأوّل عامّ في العيوب كلّها، والثّاني خاصّ بعيوب معيّنة، وذلك على الوجه الآتي‏:‏

فالشّروط العامّة عند الحنفيّة، هي‏:‏

100 - أن تكون الزّوجة جاهلةً بالعيب قبل العقد، ولم ترض به بعده صراحةً أو دلالةً‏.‏ وعلى هذا فلو كانت الزّوجة عالمةً بالعيب قبل العقد لم يكن لها طلب التّفريق به لرضاها به حكماً، وكذلك إذا علمت بالعيب بعد العقد فرضيت به صراحةً، كأن قالت‏:‏ رضيت بعيبه هذا، أو دلالةً بأن مكّنته من الوطء، لم يكن لها طلب التّفريق، قال السّمرقنديّ في التّحفة‏:‏ وإذا خيّرها الحاكم فوجد فيها ما يدلّ على الإعراض، يبطل خيارها كما في خيار المخيّرة‏.‏ ولو علمت المرأة بالعنّة عند العقد ورضيت بالعقد، فإنّه لا خيار لها، كمن اشترى عبداً وهو عالم بعيبه‏.‏

وكذلك الحكم إذا خيّرها القاضي فاختارت المقام مع زوجها، فإنّه يبطل حقّها في التّفريق، وليس لها خصومة أبداً في هذا النّكاح، ولا في غيره على الأصحّ، لرضاها بالعيب‏.‏

101 - أن تطلب الزّوجة إلى القاضي التّفريق، لأنّ التّفريق حقّها، وليس للقاضي طلاقها دون طلب منها‏.‏ وطلبها هذا شرط في العنّين قبل ضرب المدّة وبعدها‏.‏

102 - أن تكون المرأة خاليةً من أيّ عيب يمنع الوطء كالرّتق والقرن، فإن كانت معيبةً بعيب من ذلك لم يكن لها طلب التّفريق لعيب الرّجل، لأنّ المنع من الوطء ليس من جهته فقط، والامتناع قائم من جهتها على فرض سلامة الزّوج منه، فكذلك مع عيبه‏.‏

أمّا الشّروط الخاصّة بالعنّة فهي‏:‏

103 - أ - العجز عن الإيلاج في القبل، وعلى هذا فلا يخرج عن العنّة بالإيلاج في الدّبر‏.‏

ب - العجز عن جماع زوجته نفسها، فإذا قدر على وطء غيرها وعجز عن وطئها هي لم يخرج عن العنّة في حقّها، لأنّ العنّة مرض نفسيّ غالباً، وهو قد يختلف من امرأة إلى أخرى‏.‏

ج - العجز عن إيلاج الحشفة كلّها، فإذا كان مقطوع الحشفة لم يخرج عن العنّة إلاّ بإدخال باقي الذّكر كلّه، إلاّ أنّ صاحب البحر قال‏:‏ وينبغي الاكتفاء بقدرها من مقطوعها‏.‏

د - أن لا يكون قد وصل إليها مرّةً في هذا النّكاح قبل العنّة، لأنّ حقّها في رفع الأمر إلى القضاء ينقضي بالمرّة الواحدة‏.‏

فإن كان وصل إليها في نكاح سابق عليه، كمن وطئها ثمّ طلّقها بائناً، ثمّ عاد إليها بعقد جديد، فأصيب بالعنّة قبل الوصول إليها فيه، فالأصحّ‏:‏ أنّه يسقط حقّها أيضاً بذلك، وفي قول ثان‏:‏ لا يسقط‏.‏

هـ – أن يؤجّله القاضي سنةً بعد الرّفع إليه، فإنّ القاضي إذا رفعته إليه طالبةً فراقه لعنّته أجّله القاضي سنةً وجوباً من تاريخ الخصومة، فإذا مضت السّنة دون أن يطأها، وعادت إلى طلبها التّفريق أجابها القاضي وفرّق بينهما‏.‏

وعلى هذا فلا تفريق بلا رفع للقاضي، فلا يكون التّفريق بالرّفع إلى محكّم أو غيره، ولا تفريق قبل مرور السّنة أيضاً، كما لا تفريق ما لم تعد إلى طلب الفرقة بعد مضيّ السّنة بدون وطء‏.‏

وأمّا الشّروط الخاصّة بالجبّ فهي‏:‏

104 - قطع الذّكر، فإذا قطع الذّكر والخصيتان ثبت التّفريق من باب أولى، فإذا لم يقطع الذّكر ولكنّه كان قصيراً كالزّرّ، فهو كالمجبوب في الحكم، لعدم إمكان إدخال مثله في الفرج، فإن كان صغيراً يمكن إدخاله في الفرج فليس بمجبوب ولا تفريق، وإن لم يدخل إلى آخر الفرج‏.‏

فإن كان مقطوع الحشفة فقط وله ما يدخله في الفرج بعدها، لم يكن مجبوباً، ولا تفريق‏.‏ ولمزيد من التّفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏جبّ ج 15 ف 7 وما بعدها‏)‏‏.‏

وأمّا الشّروط الخاصّة بالخصاء‏:‏

105 - فهي الشّروط الخاصّة بالعنّة لاستوائهما في الحكم عند الحنفيّة، هذا إذا نزعت خصيتاه أو رضّتا أو سلّتا وعجز عن الانتشار، فإذا لم يعجز عن الانتشار فليس خصيّاً في الحكم، ولا تفريق‏.‏

طرق إثبات العيب

106 - إذا أقرّ المعيب المدّعى عليه بعيبه المدّعى به ثبت عيبه بإقراره، وقضي عليه بموجبه‏.‏

فإذا أنكر العيب وادّعى السّلامة منه، فإن كان العيب ممّا يعرف بالجسّ من فوق الإزار، كالجبّ، أمر القاضي من يجسّه من الرّجال من فوق الإزار، وأخذ بقوله إن كان عدلاً، لأنّه إخبار‏.‏

فإن لم يعرف العيب بالجسّ أمره بالنّظر إليه، وهو مباح هنا للضّرورة‏.‏

وإن كان العيب في المرأة كالقرن والرّتق، أمر القاضي امرأةً تنظر إليها، وثبت بقولها ما دامت عدلةً‏.‏

فإن كان لا يعرف بالجسّ كالعنّة، فإن قالت الزّوجة‏:‏ إنّها بكر، أريت النّساء، فإن قالت امرأة ثقة - والمرأتان أوثق -‏:‏ إنّها بكر، فالقول قولها، ويؤجّل سنةً، لأنّ ظاهر الحال شاهد لها، وكذلك الحكم عند انتهاء السّنة، وإن قالت المرأة الثّقة‏:‏ إنّها ثيّب حلف الزّوج، فإن حلف صدّق بيمينه، ولا خيار لها، وإن نكل قضي عليه بالعنّة، وخيّرت المرأة بعد التّأجيل‏.‏

وإن قالت الزّوجة‏:‏ إنّها ثيّب، حلف الزّوج، فإن حلف صدّق ولا خيار لها، وإن نكل قضي عليه بالعنّة وأجّلت أو خيّرت‏.‏

فإن قالت الزّوجة‏:‏ إنّها بكر فوجدت ثيّباً، فادّعت أنّه أزال بكارتها بأصبع أو غيره، صدّق الزّوج بيمينه، لأنّها تدّعي غير الأصل هذا ما نصّ عليه الحنفيّة‏.‏

والحنابلة مثل الحنفيّة، إلاّ في العنّين، فإنّ لهم في قبول قول المرأة الواحدة فيه إذا كانت بكراً أو ثيّباً روايتين‏:‏

الأولى‏:‏ أنّ القول قول الزّوج مع يمينه كالحنفيّة، لأنّ ظاهر الحال شاهد له، والثّانية‏:‏ أنّه يخلّى معها ويقال‏:‏ أخرج ماءك على شيء، فإن أخرجه فالقول قوله، لأنّ العنّين يضعف عن الإنزال، فإن أنزل تبيّن صدقه‏.‏

وعن أحمد رواية ثالثة‏:‏ أنّ القول قول المرأة مع يمينها، حكاها القاضي في المجرّد‏.‏

وقد رجّح ابن قدامة الرّواية الأولى، وضعّف ما عداها، فقال‏:‏ والصّحيح أنّ القول قوله، كما لو ادّعى الوطء في الإيلاء‏.‏

والشّافعيّة في هذا مع الحنفيّة والحنابلة، إلاّ في العنّين أيضاً، فإنّهم يرون أنّها إذا ادّعت البكارة أريت النّساء، ولم يقبل بأقلّ من أربع، فإن شهدن ببكارتها فالقول قولها للظّاهر، وهل تحلّف ‏؟‏ وجهان، رجّح في الشّرح الصّغير التّحليف، وعليه أكثر علماء المذهب، ما لم يدّع الزّوج عودة البكارة إليها فإن قال ذلك وطلب يمينها، حلفت روايةً واحدةً‏.‏

فإن قالت الزّوجة‏:‏ إنّها ثيّب وأنكرت الوطء، فالقول قوله بيمينه، لأنّ الظّاهر له، فإن نكل حلّفت الزّوجة، وفي رواية مرجوحة أنّ اليمين لا يردّ عليها‏.‏

أمّا المالكيّة فقد ذهبوا إلى الجسّ فيما يعرف بالجسّ، فإن كان لا يعرف بالجسّ، وكان ممّا لا يراه الرّجال ولا النّساء كالاعتراض، وبرص الفرج، فإنّ القول فيه قول المعيب بيمين، وإن كان ممّا يراه الرّجال، كالبرص في اليد أو الوجه في المرأة أو الرّجل على سواء، لم يثبت إلاّ بشهادة رجلين، فإن كان في داخل جسم المرأة دون الفرج، كفى فيه امرأتان‏.‏

نوع الفرقة الثّابتة بالعيب وطريق وقوعها

107 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الفرقة للعيب طلاق بائن، وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّها فسخ وليست طلاقاً‏.‏

كما ذهب الحنفيّة إلى أنّ الفرقة للعيب لا تقع بغير الرّفع إلى القاضي ثمّ القاضي يكلّف الزّوج بالطّلاق، فإن طلّق فبها، وإلاّ طلّقها عليه، وروي عنهم‏:‏ أنّ الفرقة تقع باختيار الزّوجة نفسها بانتهاء المدّة المضروبة في العنّة بدون قضاء، وهو ظاهر الرّواية‏.‏

وذهب المالكيّة إلى ما ذهب إليه الحنفيّة في روايتهم الثّانية، إلاّ أنّهم اشترطوا إذن القاضي لها بالتّطليق إذا كان بقولها، وأن يحكم به القاضي بعد ذلك رفعاً للخلاف، والحكم هنا إنّما هو للإشهاد والتّوثيق، لا لوقوع الطّلاق، لأنّه وقع بقولها‏.‏

وللشّافعيّة قولان، الأوّل‏:‏ أنّها تستقلّ بالفسخ بعد ثبوت حقّها فيه لدى القاضي بيمينها أو إقراره‏.‏

والثّاني‏:‏ لا بدّ من فسخ القاضي رفعاً للخلاف‏.‏

أمّا عند الحنابلة فإنّ الفسخ لا يتمّ إلاّ بحكم القاضي‏.‏

وهل تكون الحرمة الواقعة بالتّفريق للعيب مؤبّدةً ‏؟‏

ذهب الجمهور إلى أنّها غير مؤبّدة، ولهما العود إلى الزّوجيّة ثانيةً بعقد جديد‏.‏

وذهب أبو بكر من الحنابلة إلى أنّ الحرمة الواقعة بالتّفريق للعيب مؤبّدة‏.‏

التّفريق لفوات الكفاءة

108 - ذهب جمهور الفقهاء إلى الاعتداد بالكفاءة في الزّواج، إلاّ أنّهم اختلفوا فيما بينهم في اعتبارها سبباً للتّفريق بين الزّوجين، على تفصيل ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏كفاءة‏)‏‏.‏

صور أخرى من التّفريق

109 - هناك صور أخرى من التّفريق يرى بعض الفقهاء أنّ بعضها طلاق، ومنها‏:‏

أ - التّفريق بخيار البلوغ، وينظر تفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏بلوغ‏)‏ ف 39 وما بعدها‏.‏

ب - التّفريق لاختلاف الدّين، وينظر تفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏ردّة‏)‏ ف 44‏.‏

ج - التّفريق للّعان، وينظر تفصيله في مصطلحي‏:‏ ‏(‏فرقة، ولعان‏)‏‏.‏

د - التّفريق لفساد عقد النّكاح أو لتخلّف الوصف المرغوب فيه، وينظر تفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏نكاح‏)‏‏.‏

هـ – التّفريق للتّحريم الطّارئ بالرّضاع أو المصاهرة، وينظر تفصيله في‏:‏ ‏(‏رضاع ف 27، ومصاهرة‏)‏‏.‏

و - التّفريق لنقصان المهر، وينظر تفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏مهر‏)‏‏.‏